/ الْفَائِدَةُ : (23) /
21/03/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / مُصطلح (الوَهْم) / / إِطلاق عنوان (الوَهْم) على جملة من إِدْرَاكات العقل المُتعلِّق بأَلطف الأَجسام توسُّطاً / المقصود من عنوان ولفظ: (الوَهْم) و(القوىٰ الواهمة) الوارد في بيانات الوحي وفي اِصطِلاح المعقول والعلوم العقليَّة ـ كـ: الفلسفيَّة والكلاميَّة والعرفانيَّة ـ ليس ما يُقصد في العرف واللُّغة ـ أَي: الخلط والِاشْتِبَاه، وخطرات القلب، والسَّراب الَّذي لا حقيقة له، أَو مرجوح طرفي الُمتردَّد فيه ـ بل الإِدْرَاك العقلي المُتَعَلِّق بالجسم أَو المقدار، والعقل المُقيَّد والمُرتبط والمُتعَلِّق بالجسم والجسمانيَّات والمقادير ـ سواء كانت مادِّيَّة: (دنيويَّة)، أَو (برزخيَّة مثاليَّة)، أَو (أُخرويَّة أَبديَّة) ـ ، ويُعبِّر عنه الَمشَّاء بـ: (العقل السَّاقط). وَإِنْ شئتَ قُلْتَ: إِنَّ المُراد من عنوان (الوَهْم) بِهذا الِاصطلاح عَالَمٌ متوسِّط بين العَالَم العقلي وعَالَم البرزخ والمِثَال، وقوَّة وعَالَم من المُوْجُوْدَات لم تبلغ لطافة عَالَم النُّور المُجرَّد نسبياً بتجرُّد عَالَم العقل، لكن ليست له علائق وَأَحكام المادَّة الدُّنيويَّة، ولا الأَبعاد الثلاثة ـ الطول، والعرض، والِارْتِفَاع ـ، ولا أَبْعَاد كميَّة ولا مُحَاذَاة؛ فيكون مُجرَّداً عن الجسميَّة تجرُّداً نسبيّاً، ومُتعانق ومُتعلِّق بجسم خياليٍّ لطيف، فيه مقسم وجواهر، وَأَقْسَامه لا تختصّ بالإِنسان الصَّغير، بل تأتي أَيضاً في الإِنسان الكبير. إِذَنْ: للإِنسان جسمٌّ ظلِّيٌّ من عَالَم الأَظلَّة والأَشباح، أَلطف من جسم عَالَم الجنَّة الأَبديَّة هو الَّذي يتعلَّق به العقل النَّازل والمُعبَّر عنه بالوَهْم. فالمُراد من (الوَهْم) هو: العقل المحدود والمُتعلِّق بأَشفِّ الأَجسام وأَلطفها توسُّطاً. والعقل بهذا المعنىٰ وإِنْ كان مُجرَّداً في ذاته عن المادَّة الأَغلظ، لكنَّه حينما يرتبط بذلك الجسم يصير محدوداً ومتناهياً أَكثر، فتكون الواقعيَّة الَّتي وراء حدِّه غيباً بالنِّسبَة إِليه، ولهذا عُبِّر عنه وعن نِتَاجَاته بالوَهْم. وَلَكَ أَنْ تقول: إِنَّ لعنوان: (الوَهْم) الوارد في البحوث العقليَّة والمعرفيَّة اِصطلاحات مُتعدِّدة، منها: القوَّة المُجرَّدة في نفسها عن الجسمانيَّة، والمُرتبطة بموجودات جزئيَّة أَو جسمانيَّة. مثالها: المحبَّة والكراهية والبغض المُتعلِّقة بشخصٍ مُعيَّنٍ؛ فإِنَّها وإِنْ كانت بنفسها مخلوقات مُجرَّدة عن الجسمانيَّة وَأَبْعَاد الجسم الثلاثة ـ الطول، والعَرَض، والعمق (الِارْتِفَاع) ـ، لكنَّها لَـمَّا كانت مرتبطة بجزئيَّات وموجودات جسمانيَّة كانت مُقيَّدة بتلك الموجودات الجزئيَّة الخاصَّة أَو الجسمانيَّة؛ فلذا لم تكن مُجرَّدة تجرُّداً مطلقاً، ومن ثَمَّ أَمكن دركها بقوَّة نازلة، بعدما أُضيفت وتعلَّقت بشيءٍ جسمانيٍّ. ويُعبَّر عن هذه القوَّة المُدْرِكة لهذه الأُمور بـ: (قوَّة الوَهْم). وهذا بخلاف محبَّة الله عَزَّ وَجَلَّ وخشيته والخوف منه تقدَّس ذکره؛ فإِنَّها بعدما لم يكن لها حدٌّ في نفسها، وليست لها الأَبْعَاد الثلاثة ـ الطول والعَرَض والعمق ـ ولا مقدار؛ وكانت مُجرَّدة من هذه الجهة، وبعدما أُضِيْفَت وتعلَّقت بالواقعيَّة المُجرَّدة عن الجسمانيَّة والمادَّة مُطلقاً كانت مُجرَّدة تجرُّداً تامّاً أَيضاً من الجهة الثَّانية، وحينئذٍ خرجت عن حريم ضابطة الوَهْم، ومن ثَمَّ لم يكن لقوَّة الوَهْم القدرة والمُكْنَة من إِدْرَاكها، ودخلت في حريم ضابطة قوَّة القلب. إِذَنْ: المُدْرِك لهذه الأُمور الثلاثة وما شاكلها ليست القوَّة الواهمة، بل قوَّة القلب. وبعبارة أُخرىٰ: أَنَّ الصُّورة الذهنية تُسَمَّىٰ موهومة وذلك إِذا نُظِرَ إِليها ذاتاً، يعني: صورة عقليَّة محدودة. أَمَّا إِذا نُظِرَ بها غيرها، وكان خالقاً وليس مخلوقاً فلا يكون الْمَحَكِيّ موهوماً. ومنه تتَّضح: كثير من بيانات الوحي، منها: بيان الإِمام الباقر (صلوات اللّٰـه عليه): «كلمَّا ميزتموه بأَوهامكم في أَدَقِّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إِليكم ...»(1)؛ فإِنَّه وصف للحاكي. / معرفة حقائق أَهل البيت عليهم السلام على مراتب وطبقات / / معرفة طبقات حقائق أَهل البيت عليهم السلام الصَّاعدة لا تحصل بالقوَّة الواهمة / ومنه يتَّضح: أَنَّ معرفة حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ علىٰ مراتب وطبقات؛ فبلحاظ أَبدانهم الشَّريفة وطبقات حقائقهم النَّازلة يمكن إِدراكها بالقوَّة الواهمة، بخلاف حقائقهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ النُّوريَّة وطبقاتها الصَّاعدة والمُجرَّدة تجرُّداً تامّاً؛ فإِنَّها تخرج عن حريم ومُكْنَة القوَّة الواهمة، نعم يمكن إِدْرَاكها بقوَّة القلب. وهذا برهانٌ دالٌّ علىٰ أَنَّ معرفة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ علىٰ مراتب وطبقات غير متناهية، وليست علىٰ مرتبةٍ وطبقةٍ فاردةٍ. / إِطلاق عنوان (الوَهْم) على مُطلق العقل ونتاجاته أَيضاً / بل يُطلق عنوان (الوَهْم) في لسان بيانات الوحي علىٰ إِدْرَاكَات مُطلق العقل ونتاجاتها أَيضاً؛ رغم عدم تعلُّقه بالجسم المُتوسِّط؛ وذلك لكونه مخلوقاً ومحدوداً بماهيَّة اِمكانيَّة، وَكُلُّ مُمكن زوج تركيبي، وهذه الحدود لیست جغرافيَّة، بل نوعيَّة ماهويَّة، فبلحاظ ما بعد حَدِّ العَالَم العقلي وما وراء قدرته الاِمكانيَّة؛ ولقصور وعجز إِدْرَاكه واِحاطته بمطلق الواقعيَّة يكون إِدْرَاك العقل ـ وإِنْ كان بنحو الجزم والقطع واليقين ـ لواقعيَّة ما بعد حدِّه وَهْماً. نعم ، إِنْ اِعتَمَدَ الحكم العقلي على مطابقته لبيانات الوحي كانت حقيقة تلك الإِدْرَاكَات العقليَّة مُتَّصِفَة باليقين ، وحقيقة مطابقة للواقع . وهذا ما تُشير إِليه كثير من بيانات الوحي، منها: بيان أَمير المؤمنين (صلوات اللّٰـه عليه) المُفسِّر لكثير من بيانات القرآن الكريم، عن أَبي مَعْمَر السعداني: «أَنَّ رَجُلاً أَتَىٰ أَمير المؤمنين عَلِيّ بن أَبي طالب عليه السلام ، فقال: يا أَمير المؤمنين إِنِّي قد شككتُ في كتاب الله المُنزل، قال له عليه السلام: ... هات ويحكَ ما شككتَ فيه، قال: وأَجد الله تبارك وتعالىٰ يقول: [وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا](2). وقال: [يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ](3). وقال: [وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا](4). فمرَّة يخبر أَنَّهم يظنُّون، ومرَّة يخبر أَنَّهم يعلمون، والظَّنّ شَكّ فأَنَّىٰ ذلك يا أَمير المؤمنين، وكيف لا أَشكّ فيما تسمع ... فقال عَلِيٌّ عليه السلام: وَأَمَّا قوله: ... [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ](5) يعني: يوقنون أَنَّهم يُبعثون ويُحشرون ويُحاسبون ويُجزون بالثَّوَاب والعقاب، فالظَّنُّ ها هنا اليقين خاصَّة، وكذلك قوله: [فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا](6)، وقوله: [مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ](7)، يعني: مَنْ كان يؤمن بأَنَّه مبعوث فإِنَّ وعد الله لآتٍ من الثَّواب والعقاب ... وأَمَّا قوله: [وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا](8)، يعني: أَيقنوا أَنَّهم داخلوها، وكذلك قوله: [إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ](9)، يقول: إِنِّي أَيقنتُ أَنِّي ابعث فأُحاسَب ... وأَمَّا قوله للمنافقين: [وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا](10)، فهذا الظَّنّ ظَنّ شَكّ، وليس ظَنّ یقین؛ والظَّنُّ ظنَّان: ظَنّ شَكّ، وَظَنّ يقين، فما كان من أَمر مَعَاد من الظَّنِّ فهو ظَنُّ يقين، وما كان من أَمر الدُّنيا فهو ظَنُّ شَكّ فَاِفْهَم ما فسَّرتُ لَكَ ...»(11). ودلالته واضحة. ونُكْتَة ما أَشار إِليه (صلوات اللّٰـه عليه) قد اِتَّضَحَت. وعليه: يكون أَصل المعنىٰ اللُّغوي محفوظاً في الِاستعمالات الوحيانيَّة والاِصطلاح العقلي. / إِطلاق عنوان (الوَهْم) أَيضاً على إِدْرَاكَات القلوب ومكاشفاتها عياناً / بل الِاستعمالات الوحيانيَّة تَطْلِق عنوان (الوَهْم) أَحياناً علىٰ إِدْرَاكَات القلوب، مع أَنَّ إِدْرَاكَاتها إِدْرَاكَات عيانيَّة ووجدانيَّة ومكاشفات عيان؛ فإِنَّ القلب لبّ الرُّوح، وهو ليس بالعقل الحصولي الفكري، بل العقل والإِدْرَاك الشهودي؛ فمعنىٰ العقل الشهودي والذوقي: إِدْرَاك، لكنَّه إِدْرَاك وجداني، فحبُّ الشيء، والِانْجِذَاب إِليه، أَو النفرة منه، والكراهة له ليست أُموراً فكريَّة، بل وجدانيَّة، ومع هذا تطلق عليها بيانات الوحي أَحياناً عنوان (الوَهْم)، والنُّكَتَة قد تقدمت الاشارة اليها ، فلاحظ تلك البيانات، منها: بيان الإِمام الصَّادق (صلوات اللّٰـه عليه): «... مَنْ زَعَمَ أَنَّه يعرف الله بتوهّم القلوب فهو مشرك ... قيل له: فكيف سبيل التَّوحيد؟ قال: ... إِنَّ معرفة عين الشَّاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه ... كما قالوا ليوسف: [قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي](12)؛ فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أَثبتوه من أَنفسهم بتوهّم القلوب ...»(13). ودلالته علىٰ ما ذكرناه واضحة. / عصارة القول / والخلاصة: أَنَّ يد السَّاحة الإِلٰهيَّة مَتَّعت الإِنسان بنافذتين وقوَّتين إِدراكيَّتين. إِحداهما: الفكر، والمُعبَّر عنه بـ: (العقل النَّظري). الأخرىٰ: الذوق، والمُعبَّر عنه بـ: (العقل الشُّهودي الذَّوقيّ). وهاتان القوَّتان وما شاكلهما بعدما كانت مخلوقة فلابُدَّ أَنْ تكون محدودة؛ فيكون ما وراء حدها وَهْماً وتخرُّصاً بالغيب بالنِّسبة إِليهما . إِذَنْ: لأَصل إِدْرَاكَات العقول ـ نظريَّة كانت أَم شهوديَّة ـ واقعيَّة وحقيقة، لكن ليست هي وما تُنبئ عنه تمام الحقيقة، بل ومضة عنها، وآية لها، ولمعان منها. / دعوى اِماتة الدِّين للعقل وتهميشه/ ومما تقدم تتَّضح: مغالطة العلمانيِّين والحداثويِّين والفلسفات الأَلسِنِيَّة وما شاكلها؛ فإِنَّهم يدَّعون اِماتة الدِّين للعقل ومحاربته له. والحقُّ: أَنَّ الدِّين لا يتنكَّر للعقل ولا يُهمِّشه، وإِنَّما يزن الأُمور بوزنها، فالدِّين يحثُّ علىٰ العقل والفكر والتَّفَكُّر، ويُشدّد عليها. فانظر: بيانات الوحي، منها: بيان الإِمام الكاظم (صلوات اللّٰـه عليه)، عن هشام بن الحكم، قال: «قال لي أَبو الحسن موسىٰ بن جعفر عليه السلام : يا هشام، إِنَّ الله تبارك وتعالىٰ بَشَّرَ أَهل العقل والفهم في كتابه فقال: [فَبَشِّرْ عِبَاد * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ](14). يا هشام، إِنَّ الله تبارك وتعالىٰ أَكمل للنَّاس الحُجَجَ بالعقول، ونصر النَّبِيِّين بالبيان، ودَلَّهم علىٰ رُبوبيَّته بالأَدلَّة، فقال: [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ](15). يا هشام، قد جعل الله ذلك دليلاً علىٰ معرفته بأَنَّ لهم مُدَبِّراً، فقال: [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ](16). وقال: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ](17)... يا هشام، إِنَّ العقل مع الْعِلْم، فقال: [وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ](18) ... يا هشام، ثُمَّ ذَكَرَ أُولي الأَلباب بأَحسن الذِّكر، وحَلَّاهُمْ بأَحْسَنِ الِحليَة، فقال: [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ](19) ... يا هشام، إِنَّ الله تعالىٰ يقول في كتابه: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ](20)، یعني: عقلٌ، وقال: [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ](21)، قال: الفهم والعقل. يا هشام، إِنَّ لقمان قال لِابْنِهِ: ... يا بُنيَّ إِنَّ الدُّنيا بحرٌ عميقٌ، قد غَرِق فيها عَالَمٌ كثيرٌ، فلتكن سفينتُكَ فيها تقوىٰ الله، وحَشوُها الإِيمان، وشِرَاعُهَا التَّوكُّلَ، وقَيِّمُهَا العقل، ودليلها الْعِلْم ... يا هشام، ما بعث اللهُ أَنبياءه ورُسُلَه إِلى عباده إِلَّا ليعقِلوا عن الله، فأَحسنهم استجابةً أَحسنهم معرفةً، وَأَعلمهم بأَمر الله أَحسنهم عقلاً، وَأَكملُهُم عقلاً أَرفعُهُمْ درجةً في الدُّنيا والآخرة. يا هشام، إِنَّ للّٰـه علىٰ النَّاسِ حُجَّتين: حُجَّةً ظاهرةً، وَحُجَّةً باطنةً، فأَمَّا الظَّاهرةُ فالرُّسُل والأَنبياء والأَئِمَّة عليهم السلام ، وَأَمَّا الباطنة فالعقول ... يا هشام، كان أَمير المؤمنين عليه السلام يقول: ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ أَفضل من العقل ...»(22). ودلالته واضحة. نعم، الدِّين يُحارب التَّطَرُّف والغُلُوّ في العقل وسائر قدرات وقوىٰ الإِنسان؛ لكونها محدودة؛ فلذا كان سعي الإِنسان لِتَعَلُّم العلوم واِكْتِشَاف الواقع محدوداً. / اِشْتِبَاه مَنْ حَكَمَ عَلَى العقل ودوره بالتَّنَحِّي/ وكذا يتَّضح أَيضاً: حلّ الِاشْتِبَاه الَّذي اِرْتَطَمَ فيه جملة من أَخباريِّ الخاصَّة والعامَّة المُسَمَّون بـ: (الظَّاهريَّة)، الحاكمون بتشطيب العقل ودوره؛ فإِنَّ العقل وإِنْ لم يَرَ تمام الحقيقة والواقعيَّة لكن ليس معناه الحُكْم عليه وعلىٰ دوره بالتَّنَحِّي. / اِشْتِبَاه مَنْ حصر التَّوصُّل إِلى النَّتائج الحقَّة بالعقل ودليله / وهكذا يتَّضح أَيضاً: إِفْرَاط الفلاسفة وَمَنْ جرىٰ علىٰ شاكلتهم؛ فإِنَّهم حصروا البراهين والتَّوصُّل إِلى النَّتائج الحَقَّة بالعقل حسب. والحقُّ: أَنَّ المَسَار المُستقيم والقويم يكمن في الجادَّة الوسطىٰ؛ وتقدير الأُمور بقدرها، فَلَا إِفراط ولا تفريط، وإِنَّما أَمر بين أَمرين؛ فإِنَّ الحقيقة والواقعيَّة وإِنْ كانت غير متناهية وغير محدودة، ومسير تكامل العقل غير متناه وغير محدودٍ أَيضاً، لكنَّ العقل وقواه متناهية ومحدودة بالفعل. ومن ثَمَّ يدعو الوحي إِلى دوام مسيرة الْعِلْم. وهذه القضيَّة المعرفيَّة وهذا الشأن في العَالَم العقلي إِحدىٰ صغريات كبرىٰ ما ورد عنهم (صلوات اللّٰـه عليهم) «أَمر بين أَمرين»؛ فلا العقل يُحيط بمطلق الحقيقة والواقعيَّة، ولا هو ونتاجه سراب وتبدُّد، وإِنَّما يُدْرِك من الحقيقة والواقعيَّة ما كان داخلاً في حوزته وحدِّه، وحينئذٍ لا بُدَّ أَنْ يعتمد فيما عداه علىٰ وحي السَّاحة الإِلٰهيَّة، وإِلَّا كان تخرُّصاً ووهماً ورَجْمًا بِالْغَيْبِ. وهذه القضيَّة شاملة لمُطلق المخلوقات، منها: أوَائِل الصَّوَادر ؛ أَنوار وطبقات حقائق أَهل البيت عليه السلام الصَّاعدة؛ فلذا تكون الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزَليَّة الُمقدَّسة غيب بالنِّسبَة إِلى نور الصَّادر الأَوَّل سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله وطبقات حقيقته الصَّاعدة، وَمِنْ ثَمَّ يستمد صلى الله عليه واله الفيض والعون منه تعالىٰ. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأَنوار، 66: 293. (2) الكهف: 53. (3) النور: 25. (4) الأَحزاب: 10. (5) البقرة: 46. (6) الكهف: 110. (7) العنكبوت: 5. (8) الكهف: 53. (9) الحاقة: 20. (10) الأَحزاب: 10. (11) توحيد الصدوق: 248ـ 263/ح5. (12) يوسف: 90. (13) بحار الأَنوار، 68: 275ـ 279/ح31. تحف العقول: 340ـ 345. (14) الزمر: 17ـ 18. (15) البقرة: 163ـ 164. (16) النحل: 12. (17) غافر: 67. (18) العنكبوت: 43. (19) البقرة: 269. (20) ق: 37. (21) لقمان: 12. (22) أُصول الكافي، 1: 13ـ 17/ح12